13.1.09

مشهدٌ في روايةٍ أبدية



قبل أيام قليلة وعلى غير عادتي, كنت قد استيقظت مبكراً, وصعدت لسطح البيت كي أكمل ما قرأته في ساعات الليل الأخيرة من رواية " زوربا " للكاتب اليوناني (نيكوس كازانتزاكي), وبينما أنا مستمتعٌ بشعاع الشمس الصباحيّ وبشخصية زوربا النادرة المدهشة, أمطرتنا طائرات الاحتلال الإسرائيلي بمنشورات تحذيريّة, قطعت حبل التماهي مع روايةٍ في كتابٍ, ورمتني لأقرأ بعضاً من روايةِ الشارع!

نصبت قامتي على بلكونة سطح البيت ورحت أراقب الوجه الجمالي في الرواية, كان منظر المنشورات وهي تطير إلينا أشبه بجموع من حَمامَات السلام, وكانت لحظة وصول المنشورات لتسلِّم رسالة أهل السماء إلى سكان هذي الأرض تحديداً, كانت اللحظة الأكثر حَمِيمِيّة, حيث تسارع الشبابُ إليها قبل أن يتصارع عليها الصبيان, وكأن كل واحدٍ منهم يريد أن يكون نبيّ بيتهِ الجديد!

كان المشهدُ جميل جداً من زاويتي, ضحكتُ كثيراً في أول الأمر – لا أدري سبب ذلك- وتأمّلتُ المنشورات طويلاً وهي تسقط ببطء. تأملتُ الناس وهم يصرخون بأصوات غير واضحةٍ كأنهم يستعجلون وصولها. كان المشهد أروعَ مما ظننتُ, فقررتُ أن أعيشَهُ بكل تفاصيله, ورحتُ أراقب أقرب المنشوراتِ إلى سطح بيتنا, مرّ منشورٌ من أمام عينيّ, قريباً جداً مني, كأنه يكيدني. صمَّمتُ على التقاطه, قفزتُ قدر استطاعتي, لكن خوفي من وصول الإسفلت قبله أرغمني على الاستمرار في دور المشاهد, ووقفت أندب حظي, بينما مرّ المنشور بهدوء قاتلٍ, حاملاً رسالته إلى نبيٍّ آخر.

لم يكن سوء حظي كبيراً كما اعتقدت, ولم تُذهِبُ الأقدار جهدي في مراقبة المنشور سديً, فقد سقط المنشورُ أخيراً, وكان ابن جارنا نبيّ العائلتيْن. أسرعتُ للبلكونة في الجهة المقابلة, وصرختُ باسمه: خالد, ياخااالد, اقرأ المنشور بسرعة وارْمهِ لي. قرأ خالد المنشور على عَجَلٍ ولفّه على حَجَرٍ صغيرٍ ثم قَذفَ به إليّ. التقطتهُ سريعاً, فتحته, ورحتُ أقرأ:




إلى سكان قطاع غزة

نشر جيش الدفاع الإسرائيلي قبل عدة أيام مناشير في رفح حذر فيها السكان من عملية وشيكة وأوعز إليهم بإخلاء منازلهم صونا لسلامتهم.

إن انصياع سكان رفح لتوجيهات وتعليمات جيش الدفاع حال دون المساس بالسكان الذين ليس لهم ضلع في الاقتتال.

ستصعِّد قوات الجيش خلال الفترة القريبة من عملياتها الموجهة ضد الأنفاق ومخازن الوسائل القتالية والعناصر الإرهابية في كافة أرجاء القطاع.

من أجل سلامتكم وسلامة عائلتكم إنكم مطالبون بالامتناع عن التواجد بالقرب من العناصر الإرهابية ومخازن الوسائل القتالية ومواقع تتم منها عمليات إرهابية.


يرجو جيش الدفاع الاستمرار على هذا النهج في الانصياع للتعليمات الموجهة إليكم عبر كافة الوسائل.


قيادة جيش الدفاع الإسرائيلي



بعد أن انتهيتُ من قراءةٍ مكُّوكيّةٍ للمنشور, لاحتْ لي فكرةٌ خبيثةٌ لا تخلو من طرافة, دفعتني إليها حماستي الشديدة, وانهماكي الطفوليّ في تفاصيل اللحظة وجمالها. عُدتُ سريعاً إلى البلكونة الأمامية الموازية للشارع حيث جمهور الحارة يتهافت على كل منشور يصل الأرض, كأنّ رسالته ستكون مختلفة عن سابقتها. انتظرتُ حتى فرغ الجميعُ من التقاط المنشورات, حيث وصلتْ جميعها إلى أيدي الشبابِ المتناحرة. هذه اللحظة بدت لي أنها الأنسب لتنفيذ الفكرة, أسرعت للغرفة المجاورة وقطعت ورقة تكبرُ حجم المنشور قليلاً, وألقيتُ بها متقمصاً دور السماء التي تهزأ بأهل الأرض من حينٍ لآخر, كان المشهد سخيفاً, يكشف لي عن معنىً أكبرُ كلما اقْتربت الرسالة من منتظريها, بدا المشهدُ مثيراً للسخريةِ, إذ أنّي اكتشفتُ أشياءً بدت لي واضحةً من مجرّد موقفٍ اختلقته تواً, أشياء كثيرةً ومهمةً, عكفتُ طويلاً على القراءة من أجل الوصول إليها. بدا المشهدُ مثيراً للشفقة أيضاً, إذ أني كنتُ أعرف تماماً أن الرسالة لا تحوي غير خطوط زرقاء فاتحةٍ على ورقة بيضاء. بدا المشهدُ مثيراً للسخريةِ والشفقةِ في آن!

لم يكفِني أني قرأتُ أقصر الكتب السماوية التي وصلت سكان الأرض, وبعثتُ برسالة أخرى كي تكتمل تفاهة الموقف, بل أسرعت مهرولاً, قاطعاً خمس طوابق على درج البيت الذي أحفظه كجدول الضرب. كانت دكان أخي ( أبو نضال) مزدحمةً بأهل الحارة الطيبين, كانت صاخبةً كحانةٍ وسط هافانا أو كاراكاس إذ يعلو صوتُ الصيحات والضحكات دون تذمرٍ من أحد.

كانت دكان ( أبو نضال) تعطي مساحةً كبيرةً لأهل الحارة في تداول الجدال العقيم فيما بينهم, والنقاش المُملّ والمضحك أحياناً, وغير المنتهي. وكنت أعرف بشكلٍ قطعيّ أن هذه المناسبة ستمنح المحللين السياسيين منهم مساحة أخرى تقتل مللهم اليوميّ, وتسدّ الفراغ الذي كانت تملؤه الكهرباء, وشاشات التلفزيون!

بدأ الجميع يستمع لتحليل وجهاء الحارة المستعدين دوماً لأي طارئ سياسي على الساحة الدولية قبل المحلية, ومخططي سياساتها في مواجهة الأزمات التي تعصف بها. كيف لا؟ فهم من قاموا قبل ذلك بالتصدي للتحدي الأصعب, والخطر الأكبر الذي كان يهدد إسفلت الحارة, حين ساهموا بالتخلص من رائحة المجاري وآبارها للأبد.

أسرع ( أبو نضال) للدلو بدلوه باعتباره صاحب الحظ الأوفر من استضافة الوجهاء, وبدأ الآخرون من ورائه يطلقون العنان لألسنتهم التي لا يتسلل شكٌ إليها في أنها قد تكون مخطئةً حين تتدخل في السياسات العليا للإمبراطوريات العظمى, فكيف الحال مع مجرّد حفنةٍ من قصاصات الورق الطائرة!

إن إلقاء هذه المنشورات يأتي في إطار الحرب النفسية التي ترافق أي حرب – قال فلان. لا.. لا.. هذا كلام إعلام, وانحراف واضح عن حقيقة الأمر, إن جيشاً بهذا الإجرام لا يبحث عن اللعب بنفسيّاتنا, ولا ينتظر علينا كثيراً, فهو يقتل مباشرةً ولا يبالي بدقائق الأمور كما نظن, إن هذا الجيش نازي, لا يهمه سوى القتل, لكنه يلقي بهذه المنشورات خوفاً من زيادة عدد الضحايا المدنيين الذي بدوره سيفضحه على قناة الجزيرة الفضائية – قال آخر. ثم قال ثالثٌ, رابعٌ... إلى أن مللتُ منهم وغبتُ. أما أختي الكبرى فقالت حين زرتها في مساء يومها: إنّ إسرائيل ألقت بهذه المنشورات كي تغطي حربها إعلامياً, فهي بارعة في هذا المجال على حدّ علمي ( أرى أن أختي شرفتني كثيراً برأيها المتواضع, وإن لم أتفق معها, لكنه رأي يأخذ بالقضية إلى بعدٍ استراتيجيّ لا يتجاوزهُ إلا ذوي العقول المتحجِّرة, والأفق الأعمى).


هناك 4 تعليقات:

Gaza يقول...

جميل
ابعته على الايميل

غير معرف يقول...

أيهذا النبي..
وحيك مؤلم..

عَوسَجْ يقول...

..

مع الاختلاق قليلاً في نوع الكتاب

يعني من زوربا إلى أحمد مطر .. ومن سطح البيت لتحت شجرة العنب في فناء البيت

ومن الانفاق إلى ممنوع الاقتراب أكثر من 300 متر ..


وتعددت الأسباب والموت واحد

..

تحية غزاوية بحتة ..
ومقعد لي هنا .. والقهوة عليك

فوفو يقول...

رائع جدا كلامات فى قمة الروعة